الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
الفرق الخامس: أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التى يعملها كلها أمور وجودية، أنعم اللّه بها عليه، وحصلت بمشيئة اللّه ورحمته وحكمته وقدرته وخلقه، ليس فى الحسنات أمر عدمي غير مضاف إلى اللّه، بل كلها أمر وجودي، وكل موجود وحادث فاللّه هو الذى يحدثه. وذلك أن الحسنات إما فعل مأمور به، أو ترك منهى عنه، والترك أمر وجودي. فترك الإنسان لما نهى عنه، ومعرفته بأنه ذنب قبيح، وبأنه سبب للعذاب، وبغضه وكراهته له، ومنع نفسه منه إذا هويته، واشتهته، وطلبته كل هذه أمور وجودية، كما أن معرفته بأن الحسنات - كالعدل والصدق ـ حسنة، وفعله لها أمور وجودية. ولهذا إنما يثاب الإنسان على فعل الحسنات إذا فعلها محبا لها بنية وقصد فعلها ابتغاء وجه ربه، وطاعة للّه ولرسوله، ويثاب على ترك السيئات إذا تركها بالكراهة لها، والامتناع منها، قال تعالى: وفى الصحيحين عن أنس، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كُنَّ فيه وَجَد حلاوة الإيمان: من كان اللّّه ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع فى الكفر، بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار). وفى السنن عن البراء بن عازب، عن النبى صلى الله عليه وسلم: (أوثق عُرَى الإيمان الحب فى اللّه، والبغض فى اللّه). وفيها عن أبي أمامة عن النبى صلى الله عليه وسلم: (من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع الله، فقد استكمل الإيمان). وفى الصحيح عن أبى سعيد الخدري، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). وفى الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ـ لما ذكر الخلوف ـ قال:(من جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، وقد قال تعالى: وقال على لسان الخليل: فهذا البغض والعداوة والبراءة - مما يعبد من دون الله ومن عابديه - هي أمور موجودة فى القلب، وعلى اللسان والجوارح، كما أن حب الله وموالاته وموالاة أوليائه أمور موجودة فى القلب، وعلى اللسان والجوارح، وهي تحقيق قول (لا إله إلا اللّه)، وهو إثبات تأليه القلب لله حباً خالصاً وذلا صادقاً، ومنع تأليهه لغير اللّه، وبغض ذلك وكراهته، فلا يعبد إلا اللّه، ويحب أن يعبده، ويبغض عبادة غيره ويحب التوكل عليه وخشيته ودعاءه، ويبغض التوكل على غيره وخشيته ودعاءه. فهذه كلها أمور موجودة فى القلب، وهي الحسنات التى يثيب الله عليها. وأما مجرد عدم السيئات، من غير أن يعرف أنها سيئة، ولا يكرهها، بل لا يفعلها لكونها لم تخطر بباله، أو تخطر كما تخطر الجمادات التى لا يحبها ولا يبغضها، فهذا لا يثاب على عدم ما يفعله من السيئات، ولكن لا يعاقب أيضاً على فعلها، فكأنه لم يفعلها، فهذا تكون السيئات فى حقه بمنزلتها فى حق الطفل والمجنون والبهيمة، لا ثواب ولا عقاب. ولكن إذا قامت عليه الحجة بعلمه تحريمها؛ فإن لم يعتقد تحريمها ويكرهها وإلا عوقب على ترك الإيمان بتحريمها.
وقد تنازع الناس في الترك: هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والأكثرون على أنه وجودي. وقالت طائفة ـ كأبي هاشم بن الجبائي ـ: إنه عدمي، وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل، لا على ترك يقوم بنفسه، ويسمون (المذمية)؛ لأنهم رتبوا الذم على العدم المحض. والأكثرون يقولون: الترك أمر وجودي، فلا يثاب من ترك المحظور إلا على ترك يقوم بنفسه. وتارك المأمور إنما يعاقب على ترك يقوم بنفسه، وهو أن يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل فيمتنع، فهذا الامتناع أمر وجودي؛ ولذلك فهو يشتغل عما أمر به بفعل ضده، كما يشتغل عن عبادة اللّه وحده بعبادة غيره، فيعاقب على ذلك. ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده، فلابد أن يكون عابداً لغيره، يعبد غيره فيكون مشركا. وليس في بني آدم قسم ثالث، بل إما موحد، أو مشرك، أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل؛ النصارى ومن أشبههم من الضلال، المنتسبين إلى الإسلام، قال اللّه تعالى: فإبليس لا يغوى المخلصين، ولا سلطان له عليهم، إنما سلطانه على الغاوين، وهم الذين يتولونه، وهم الذين به مشركون. وقوله: قال تعالى: وكل من عبد غير اللّه فإنما يعبد الشيطان، وإن كان يظن أنه يعبد الملائكة والأنبياء، وقال تعالى: ولهذا تتمثل الشياطين لمن يعبد الملائكة والأنبياء والصالحين ويخاطبونهم، فيظنون أن الذى خاطبهم مَلَك أو نبى، أو وَلِيّ وإنما هو شيطان، جعل نفسه ملكا من الملائكة، كما يصيب عُبَّاد الكواكب وأصحاب العزائم والطلسمات، يسمون أسماء، يقولون: هي أسماء الملائكة، مثل منططرون وغيره، وإنما هي أسماء الجن. وكذلك الذين يدعون المخلوقين من الأنبياء والأولياء والملائكة، قد يتمثل لأحدهم من يخاطبه، فيظنه النبى، أو الصالح الذي دعاه، وإنما هو شيطان تصور فى صورته، أو قال: أنا هو، لمن لم يعرف صورة ذلك المدعو. وهذا كثير يجري لمن يدعو المخلوقين، من النصارى ومن المنتسبين إلى الإسلام، يدعونهم عند قبورهم، أو مغيبهم، ويستغيثون بهم، فيأتيهم من يقول: إنه ذلك المستغاث به، فى صورة آدمي، إما راكباً، وإما غير راكب. فيعتقد المستغيث أنه ذلك النبى، والصالح، أو أنه سِرّه، أو روحانيته، أو رقيقته أو المعنى تَشَكَّل، أو يقول: إنه ملك جاء على صورته، وإنما هو شيطان يغويه؛ لكونه أشرك بالله ودعا غيره؛ الميت فمن دونه. فصار للشيطان عليه سلطان بذلك الشرك، فظن أنه يدعو النبى، أو الصالح، أو الملك، وأنه هو الذي شفع له، أو هو الذي أجاب دعوته، وإنما هو الشيطان؛ ليزيده غلواً فى كفره وضلاله. فكل من لم يعبد اللّه مخلصاً له الدين، فلابد أن يكون مشركاً عابداً لغير اللّه، وهو فى الحقيقة عابد للشيطان. فكل واحد مـن بنى آدم إما عابد للرحمن، وإما عابد للشيطان، قال تعالى: فبنو آدم منحصرون فى الأصناف الستة، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن الثواب والعقاب إنما يكون على عمل وجودي بفعل الحسنات، كعبادة اللّه وحده، وترك السيئات، كترك الشرك أمر وجودي، وفعل السيئات، مثل ترك التوحيد، وعبادة غير الله أمر وجودي، قال تعالى: فأما عدم الحسنات والسيئات فجزاؤه عدم الثواب والعقاب. وإذا فرض رجل آمن بالرسول مجملا، وبقي مدة لا يفعل كثيراً من المحرمات، ولا سمع أنها محرمة، فلم يعتقد تحريمها، مثل من آمن ولم يعلم أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، ولا علم أنه حرم نكاح الأقارب سوى أربعة أصناف، ولا حرم بالمصاهرة أربعة أصناف ـ حرم على كل من الزوجين أصول الآخر وفروعه ـ فإذا آمن ولم يفعل هذه المحرمات، ولا اعتقد تحريمها؛ لأنه لم يسمع ذلك، فهذا لا يثاب ولا يعاقب. ولكن إذا علم التحريم فاعتقده، أثيب على اعتقاده، وإذا ترك ذلك ـ مع دعاء النفس إليه ـ أثيب ثوابا آخر، كالذي تدعوه نفسه إلى الشهوات فينهاها، كالصائم الذي تشتهي نفسه الأكل والجماع فينهاها، والذي تشتهي نفسه شرب الخمر والفواحش فينهاها. فهذا يثاب ثواباً آخر، بحسب نهيه لنفسه، وصبره على المحرمات، واشتغاله بالطاعات التى هي ضدها، فإذا فعل تلك الطاعات،كانت مانعة له عن المحرمات. وإذا تبين هذا، فالحسنات التى يثاب عليها كلها وجودية، نعمة من اللّه ـ تعالى ـ وما أحبته النفس من ذلك، وكرهته من السيئات، فهو الذي حبب الإيمان إلى المؤمنين، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
وأما السيئات، فمنشؤها الجهل والظلم، فإن أحداً لا يفعل سيئة قبيحة إلا لعدم علمه بكونها سيئة قبيحة، أو لهواه وميل نفسه إليها. ولا يترك حسنة واجبة إلا لعدم علمه بوجوبها، أو لبغض نفسه لها. وفى الحقيقة، فالسيئات كلها ترجع للجهل، وإلا فلو كان عالماً علماً نافعاً بأن فعل هذا يضره ضرراً راجحاً ولم يفعله؛ فإن هذا خاصية العاقل؛ ولهذا إذا كان من الحسنات ما يعلم أنه يضره ضراراً راجحاً، كالسقوط من مكان عال، أو في نهر يغرقه، أو المرور بجنب حائط مائل، أو دخول نار متأججة، أو رمي ماله فى البحر ونحو ذلك، لم يفعله، لعلمه بأن هذا ضرر لا منفعة فيه. ومن لم يعلم أن هذا يضره ـ كالصبى، والمجنون، والساهي، والغافل ـ فقد يفعل ذلك. ومن أقدم على ما يضره ـ مع علمه بما فيه من الضرر عليه ـ فلظنه أن منفعته راجحة. فإما أن يجزم بضرر مرجوح، أو يظن أن الخير راجح، فلابد من رجحان الخير، إما فى الظن وإما فى المظنون، كالذي يركب البحر ويسافر الأسفار البعيدة للربح، فإنه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما سافر، لكنه يترجح عنده السلامة والربح، وإن كان مخطئاً فى هذا الظن. وكذلك الذنوب، إذا جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع، لم يسرق. وكذلك الزاني، إذا جزم بأنه يرجم، لم يزن. والشارب يختلف حاله، فقد يقدم على جلد أربعين وثمانين، ويديم الشرب مع ذلك؛ ولهذا كان الصحيح: أن عقوبة الشارب غير محدودة، بل يجوز أن تنتهي إلى القتل، إذا لم ينته إلا بذلك، كما جاءت بذلك الأحاديث، كما هو مذكور فى غير هذا الموضع. وكذلك العقوبات، متى جزم طالب الذنب بأنه يحصل له به الضرر الراجح لم يفعله، بل إما ألا يكون جازماً بتحريمه، أو يكون غير جازم بعقوبته، بل يرجو العفو بحسنات، أو توبة، أو بعفو اللّه، أو يغفل عن هذا كله، ولا يستحضر تحريماً، ولا وعيداً فيبقى غافلا غير مستحضر للتحريم، والغفلة من أضداد العلم.
فالغفلة والشهوة أصل الشر، قال تعالى: ولهذا يوصف هذا بأنه عاقل، وذو نُهَى، وذو حِجَى. ولهذا كان البلاء العظيم من الشيطان، لا من مجرد النفس؛ فإن الشيطان يزين لها السيئات، ويأمرها بها، ويذكر لها ما فيها من المحاسن التى هي منافع لا مضار، كما فعل إبليس بآدم وحواء، فقال: ولهذا قال تعالى: وقوله: فأصل ما يوقع الناس فى السيئات الجهل، وعدم العلم بكونها تضرهم ضرراً راجحاً، أو ظن أنها تنفعهم نفعاً راجحاً؛ ولهذا قال الصحابة ـ رضى اللّّه عنهم ـ: كل من عصى الله فهو جاهل، وفسروا بذلك قوله تعالى: قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: وعن قتادة قال: أجمع أصحاب محمد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أن كل من عصى ربه فهو فى جهالة، عمداً كان أو لم يكن، وكل من عصى اللّه فهو جاهل. وكذلك قال التابعون ومن بعدهم. قال مجاهد: من عمل ذنباً ـ من شيخ أو شاب ـ فهو بجهالة. وقال: من عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته . وقال ـ أيضاً ـ: هو إعطاء الجهالة العمد . وقال مجاهد ـ أيضاً ـ: من عمل سوءاً خطأ، أو إثماً عمداً، فهو جاهل، حتى ينزع منه. رواهن ابن أبي حاتم. ثم قال: وروى عن قتادة، وعمرو بن مُرَّة، والثوري، ونحو ذلك: خطأ، أو عمداً. وروى عن مجاهد والضحاك قالا: ليس من جهالته ألا يعلم حلالا ولا حراما، ولكن من جهالته: حين دخل فيه. وقال عكرمة: الدنيا كلها جهالة. وعن الحسن البصري: أنه سئل عنها، فقال: هم قوم لم يعلموا ما لهم مما عليهم. قيل له: أرأيت لو كانوا قد علموا؟ قال: فليخرجوا منها، فإنها جهالة. قلت: ومما يبين ذلك قوله تعالى: وقال رجل للشعبى: أيها العالم. فقال: إنما العالم من يخشى اللّه. وقوله تعالى: ويقتضي ـ أيضاً ـ أن العالم من يخشى اللّه ـ كما قال السلف. قال ابن مسعود: كفى بخشية اللّه علماً، وكفى بالاغترار جهلا. ومثل هذا الحصر يكون من الطرفين، حصر الأول في الثانى، وهو مطرد، وحصر الثانى فى الأول نحو قوله: وذلك أنه أثبت الخشية للعلماء، ونفاها عن غيرهم، وهذا كالاستثناء؛ فإنه من النفي إثبات،عند جمهور العلماء، كقولنا:(لا إله إلا الله)، وقوله تعالى: وقد ذهب طائفة إلى أن المستثنى مسكوت عنه، لم يثبت له ما ذكر، ولم ينف عنه. وهؤلاء يقولون ذلك فى صيغة الحصر بطريق الأولى، فيقولون: نفي الخشية عن غير العلماء، ولم يثبتها لهم. والصواب: قول الجمهور، أن هذا كقوله: ففي هذه الآية وأمثالها هو مقتض، فهو عام؛ فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف. فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات، وترك السيئات، وكل عاص فهو جاهل، ليس بتام العلم. يبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل، وعدم العلم. وإذا كان كذلك، فعدم العلم ليس شيئا موجوداً، بل هو مثل عدم القدرة، وعدم السمع والبصر، وسائر الأعدام. والعدم لا فاعل له، وليس هو شيئاً، وإنما الشيء الموجود . واللّه تعالى خالق كل شىء، فلا يجوز أن يضاف العدم المحض إلى الله، لكن قد يقترن به ما هو موجود. فإذا لم يكن عالماً باللّه، لا يدعوه إلى الحسنات، وترك السيئات. والنفس بطبعها متحولة،فإنها حية،والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة؛ ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث الصحيح:(أصدَقُ الأسماء حارث وهَمَّام)، فكل آدمي حارث وهمام، أي عامل كاسب، وهو همام، أي: يهم ويريد، فهو متحرك بالإرادة. وقد جاء فى الحديث: (مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فَلاة) [فلاة: أى لا ماء فيها . انظر: القاموس مادة: فلو]، (ولَلْقَلْبُ أشد تَقَلُّباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً). فلما كانت الإرادة والعمل من لوازم ذاتها، فإذا هداها اللّه، علمها ما ينفعها وما يضرها، فأرادت ما ينفعها، وتركت ما يضرها.
والله ـ سبحانه ـ قد تفضل على بنى آدم بأمرين، هما أصل السعادة: أحدهما: أن كل مولود يولد على الفطرة، كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جَمْعَاء، هل تحسون فيها من جَدْعاء؟) ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (يقول اللّه تعالى: خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطاناً). فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة للّه بالإلهية، محبة له، تعبده لا تشرك به شيئاً، ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحى بعضهم إلى بعض من الباطل، قال تعالى: وتفسير هذه الآية مبسوط فى غير هذا الموضع. الثانى: أن الله ـ تعالى ـ قد هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى: ففي كل أحد ما يقتضى معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه ربه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الأولى والآخرة. وجعل فى فطرته محبة لذلك، لكن قد يعرض الإنسان ـ بجاهليته وغفلته ـ عن طلب علم ما ينفعه. وكونه لا يطلب ذلك، ولا يريده، أمر عدمي، لا يضاف إلى اللّه ـ تعالى ـ فلا يضاف إلى الله لا عدم علمه بالحق، ولا عدم إرادته للخير. لكن النفس ـ كما تقدم ـ الإرادة والحركة من لوازمها، فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحيا الحياة النافعة الكاملة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجباً لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة، ولا هي ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى: كمن هو حي فى الدنيا، وبه أمراض عظيمة لا تدعه يتنعم بشيء مما يتنعم به الأحياء، فهذا يبقى طول حياته يختار الموت، ولا يحصل له. فلما كان من طبع النفس الملازم لها وجود الإرادة والعمل، إذ هو حارث همام، فإن عرفت الحق وأرادته، وأحبته وعبدته، فذلك من تمام إنعام الله عليها. وإلا فهي بطبعها لابد لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة تضرها، فهذا الشر قد تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده، وهذا عدم لا يضاف إلى فاعل، ومن كونها بطبعها لابد لها من مراد معبود، فعبدت غيره. وهذا هو الشر الذي تعذب عليه، وهو من مقتضى طبعها مع عدم هداها. والقدرية يعترفون بهذا جميعه، وبأن الله خلق الإنسان مريداً، لكن يجعلون المخلوق كونه مريداً بالقوة والقبول، أي قابلا لأن يريد هذا وهذا. وأما كونه مريداً لهذا المعين، وهذا المعين، فهذا عندهم ليس مخلوقاً لله وغلطوا فى ذلك غلطاً فاحشاً؛ فإن اللّه خالق هذا كله. وإرادة النفس لما يريده من الذنوب وفعلها، هو من جملة مخلوقات الله تعالى؛ فإن الله خالق كل شىء، وهو الذي ألهم النفس ـ التى سواها ـ فجورها وتقواها. وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزَكِّها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها). وهو ـ سبحانه ـ جعل إبراهيم وآله أئمة يهدون بأمره، وجعل فرعون وآله أئمة يدعون إلى النار، ويوم القيامة لا يُنْصَرون. لكن هذا لا يضاف مفرداً إلى الله ـ تعالى ـ لوجهين: من جهة علته الغائية، ومن جهة سببه وعلته الفاعلية. أما الغائية، فإن اللّه إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير لا شر، وإن كان شراً إضافياً، فإذا أضيف مفرداً توهم المتوهم مذهب جَهم: أن الله يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد لا لحكمة ولا رحمة، والأخبار والسنة والاعتبار تبطل هذا المذهب. كما أنه إذا قيل: محمد وأمته يسفكون الدماء، ويفسدون فى الأرض، كان هذا ذماً لهم، وكان باطلا. وإذا قيل: يجاهدون في سبيل الله لتكون كلمة اللّه هي العليا، ويكون الدين كله لله، ويقتلون من منعهم من ذلك، كان هذا مدحاً لهم، وكان حقاً. فإذا قيل: إن الرب ـ تبارك وتعالى ـ حكيم رحيم، أحسن كل شىء خلقه، وأتقن ما صنع، وهو أرحم الراحمين، أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل لا يفعل إلا خيراً، وما خلقه من ألم لبعض الحيوانات أو من أعمالهم المذمومة، فله فيها حكمة عظيمة، ونعمة جسيمة ـ كان هذا حقاً، وهو مدح للرب وثناء عليه. وأما إذا قيل: إنه يخلق الشر الذي لا خير فيه ولا منفعة لأحد، ولا له فيها حكمة ولا رحمة، ويعذب الناس بلا ذنب ـ لم يكن هذا مدحا للرب، ولا ثناء عليه، بل كان بالعكس. ومن هؤلاء من يقول: إن اللّه تعالى أضر على خلقه من إبليس. وبسط القول فى بيان فساد قول هؤلاء له موضع آخر. وقد بينا بعض ما فى خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة، وما لم نعلم أعظم مما علمناه. فتبارك اللّه أحسن الخالقين، وأرحم الراحمين، وخير الغافرين، ومالك يوم الدين، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، الذي لا يحصى العباد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، الذي له الحمد فى الأولى والآخر، وله الحكم وإليه ترجعون، الذي يستحق الحمد والحب والرضا لذاته،ولإحسانه إلى عباده ـ سبحانه وتعالى ـ يستحق أن يحمد لما له فى نفسه من المحامد والإحسان إلى عباده. هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقاً. وقد ذكرنا ـ فى غير هذا الموضع ـ ما قيل: من أن كل ما خلقه اللّه فهو نعمة على عباده المؤمنين، يستحق أن يحمدوه ويشكروه عليه، وهو من آلائه؛ ولهذا قال فى آخر سورة النجم: وقال آخرون ـ منهم الزجاج، وأبو الفرج ابن الجوزي ـ: وهذا قالوه فى سورة الرحمن. وقالوا فى قوله: قلت: قد ضمن {تَتَمَارَى} معنى تكذب؛ ولهذا عداه بالتاء؛ فإن التماري تفاعل من المراء. يقال: تمارينا فى الهلال. والمراء فى القرآن كفر، وهو يكون تكذيب وتشكيك. وقد يقال: لما كان الخطاب لهم، قال:{تَتَمَارَى} أي يتمارون، ولم يقل: تميرا؛ فإن التفاعل يكون بين اثنين تماريا . قالوا: والخطاب للإنسان . قيل: للوليد بن المغيرة؛ فإنه قال: ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده، يحمد عليه حمد شكر،وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمداً يستحقه لذاته. فجميع المخلوقات فيها إنعام على العباد، كالثقلين المخاطبين بقوله: والآيات التى بعث بها الأنبياء وأيدهم بها ونصرهم، وإهلاك عدوهم ـ كما ذكره في سورة النجم: ولهذا قال عقيب ذلك: وكل من هذين المعنيين مراد، يقال: هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل والكتب الأولى. وقوله: ففي المخلوقات نعم من جهة حصول الهدى والإيمان، والاعتبار والموعظة بها. وهذه أفضل النعم. فأفضل النعم نعمة الإيمان وكل مخلوق من المخلوقات فهو الآيات التى يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة، قال تعالى: وما يصيب الإنسان، إن كان يَسُرُّه فهو نعمة بينة، وإن كان يسؤوه فهو نعمة من جهة أنه يُكَفِّر خطاياه، ويثاب بالصبر عليه. ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها وقد قال فى الحديث: (واللَّهِ، لا يَقْضِى اللَّهُ للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سَرَّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرَّاء صبر، فكان خيراً له). وإذا كان هذا وهذا، فكلاهما من نعم اللّه عليه. وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر. أما نعمة الضراء، فاحتياجها إلى الصبر ظاهر، وأما نعمة السراء، فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها؛ فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء، كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر. وفى الحديث: (أعوذ بك من فتنة الفقر، وشر فتنة الغنى). والفقر يصلح عليه خَلْق كثير، والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم. ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين؛ لأن فتنة الفقر أهون وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لما كان في السراء اللذة، وفى الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر فى السراء، والصبر في الضراء، قال تعالى: وأما صبر صاحب السراء، فقد يكون مستحباً إذا كان عن فضول الشهوات، وقد يكون واجباً، ولكن لإتيانه بالشكر ـ الذي هو حسنات ـ يغفر له ما يغفر من سيئاته. وكذلك صاحب الضراء، لا يكون الشكر فى حقه مستحباً إذا كان شكراً يصير به من السابقين المقربين. وقد يكون تقصيره فى الشكر مما يغفر له، لما يأتي به من الصبر؛ فإن اجتماع الشكر والصبر ـ جميعاً ـ يكون مع تألم النفس وتلذذها، يصبر على الألم، ويشكر على النعم. وهذا حال يعسر على كثير من الناس، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن الله ـ تعالى ـ منعم بهذا كله، وإن كان لا يظهر الإنعام به فى الابتداء لأكثر الناس، فإن اللّه يعلم وأنتم لا تعلمون، فكل ما يفعله اللّه فهو نعمة منه. وأما ذنوب الإنسان، فهي من نفسه، ومع هذا فهي ـ مع حسن العاقبة ـ نعمة، وهي نعمة على غيره بما يحصل له بها من الاعتبار والهدى والإيمان؛ ولهذا كان من أحسن الدعاء قوله: (اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل أحداً أسعد بما علمتني منى). وفي دعاء القرآن: و(الآلاء) فى اللغة: هي النعم، وهي تتضمن القدرة. قال ابن قتيبة: لما عدد الله في هذه السورة ـ سورة الرحمن ـ نعماءه، وذَكَّر عباده آلاءه ونبههم على قدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين نعمتين، ليفهم النعم ويقررهم بها. وقد روى الحاكم ـ فى صحيحه ـ والترمذي، عن جابر، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: قرأ علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى ختمها، ثم قال: (مالي أراكم سكوتا؟ لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم رَدّا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة ـ واللّه ـ تعالى ـ يذكر فى القرآن بآياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر بآياته التى فيها نعمه وإحسانه إلى عباده، ويذكر بآياته المبينة لحكمته تعالى، وهي كلها متلازمة. فكل ما خلق فهو نعمة، ودليل على قدرته وعلى حكمته. لكن نعمة الرزق، والانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا يستدل بها ـ كما فى سورة النحل ـ وتسمى سورة النعم، كما قاله قتادة وغيره. وعلى هذا، فكثير من الناس يقول: الحمد أعم من الشكر، من جهة أسبابه، فإنه يكون على نعمة وعلى غير نعمة، والشكر أعم من جهة أنواعه؛ فإنه يكون بالقلب واللسان واليد. فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة،لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال؛ لأنه ما من حال يقضيها إلا وهي نعمة على عباده. لكن هذا فَهْم من عرف ما فى المخلوقات من النعم. والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا. وكذلك كل ما يخلقه، ففيه له حكمة،فهو محمود عليه باعتبار تلك الحكمة والجهميةـ أيضاً ـ بمعزل عن هذا. وكذلك القدرية ـ الذين يقولون: لا تعود الحكمة إليه، بل ما ثم إلا نفع الخلق ـ فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة. والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، كالقادر الذي يفعل ما لا ينتفع به، ولا ينفع به أحداً، فهذا لا يحمد. فحقيقة قول الجهمية ـ أتباع جَهْم ـ أنه لا يستحق الحمد، فله عندهم ملك بلا حمد، مع تقصيرهم فى معرفة ملكه. كما أن المعتزلة له عندهم من الحمد بلا ملك تام؛ إذ كان عندهم يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وتحدث حوادث بلا قدرته. وعلى مذهب السلف، له الملك وله الحمد تامين، وهو محمود على حكمته، كما هو محمود على قدرته ورحمته. وقد قال: وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السنة، فقد نقص الرب بعض حقه. والجهمي الجبري لا يثبت عدلا ولا حكمة، ولا توحيد إلهية، بل توحيد ربوبيته. والمعتزلي ـ أيضاً ـ لا يثبت فى الحقيقة توحيد إلهية ولا عدلا فى الحسنات والسيئات، ولا عزة ولا حكمة فى الحقيقة، وإن قال: إنه يثبت الحكمة بما معناها يعود إلى غيره. وتلك لا يصلح أن تكون حكمة، من فعل لا لأمر يرجع إليه، بل لغيره هو عند العقلاء قاطبة بها ليس بحكيم، بل سفيه. وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر. والحمد ـ وإن كان على نعمته وعلى حكمته، فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التى تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا فى الشكر. ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجرداً؛ إذ كان نوعاً من الشكر. وشرع الحمد ـ الذي هو الشكر المقول ـ أمام كل خطاب مع التوحيد. ففي الفاتحة الشكرُ والتوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد. والباقيات الصالحات نوعان؛ فسبحان اللّه وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر فيها التوحيد والتكبير. وقد قال تعالى: وهل الحمد على كل ما يحمد به الممدوح، وإن لم يكن باختياره، أو لا يكون الحمد إلا على الأمور الاختيارية، كما قيل فى الذم؟ فيه نظر ليس هذا موضعه. وفى الصحيح: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: (ربنا ولك الحمد، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بَعْدُ، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعْطِيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدُّ منك الجد). هذا لفظ الحديث. (أحق): أفعل التفضيل. وقد غلط فيه طائفة من المصنفين، فقالوا:(حق ما قال العبد)، وهذا ليس لفظ الرسول. وليس هو بقول سديد؛ فإن العبد يقول الحق والباطل، بل حق ما يقوله الرب، كما قال تعالى: ولكن لفظه:(أحق ما قال العبد) خبر مبتدأ محذوف، أي الحمد أحق ما قال العبد، أو هذا ـ وهو الحمد ـ أحق ما قال العبد. ففيه بيان: أن الحمد للّه أحق ما قاله العباد؛ ولهذا أوجب قوله في كل صلاة، وأن تفتتح به الفاتحة، وأوجب قوله في كل خطبة، وفى كل أمر ذي بال. والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود، مع المحبة له، كما أن الذم يكون على مساويه، مع البغض له. فإذا قيل: إنه ـ سبحانه ـ يفعل الخير والحسنات، وهو حكيم رحيم بعباده، أرحم بعباده من الوالدة بولدها ـ أوجب ذلك أن يحبه عباده ويحمدوه. وأما إذا قيل: بل يخلق ما هو شر محض، لا نفع فيه، ولا رحمة، ولا حكمة لأحد، وإنما يتصف بإرادة ترجح مثلا على مثل، لا فرق عنده بين أن يرحم أو يعذب، وليست نفسه ولا إرادته مرجحة للإحسان إلى الخلق، بل تعذيبهم وتنعيمهم سواء عنده، وهو ـ مع هذا ـ يخلق ما يخلق لمجرد العذاب والشر، ويفعل ما يفعل لا لحكمة ـ ونحو ذلك، مما يقوله الجهمية ـ لم يكن هذا موجباً لأن يحبه العباد ويحمدوه، بل هو موجب للعكس. ولهذا فإن كثيراً من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم والطعن، ويذكرون ذلك نظماً ونثراً. وكثير من شيوخ هؤلاء وعلمائهم من يذكر فى كلامه ما يقتضي هذا، ومن لم يقله بلسانه فقلبه ممتلئ به، لكن يرى أن ليس فى ذكره منفعة، أو يخاف من عموم المسلمين. وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا. وهؤلاء يقيمون حجج إبليس وأتباعه على اللّه، ويجعلون الرب ظالماً لهم. وهو خلاف ما وصف اللّه به نفسه، في قوله تعالى: كيف يكون ظالماً وهم فيما بينهم لو أساء بعضهم إلى بعض، أو قصر فى حقه لكان يؤاخذه، ويعاقبه وينتقم منه، ويكون ذلك عدلا إذا لم يعتد عليه؟! ولو قال: إن الذي فعلته قدر علي فلا ذنب لي فيه، لم يكن هذا عذراً له عندهم باتفاق العقلاء. فإذا كان العقلاء متفقين على أن حق المخلوق لا يجوز إسقاطه احتجاجاً بالقدر،فكيف يجوز إسقاط حق الخالق احتجاجاً بالقدر وهو ـ سبحانه ـ الحكم العدل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً؟ وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع. فقوله: (أحق ما قال العبد): يقتضي أن حمد الله أحق ما قاله العبد، فله الحمد على كل حال؛ لأنه لا يفعل إلا الخير والإحسان، الذي يستحق الحمد عليه ـ سبحانه وتعالى ـ وإن كان العباد لا يعلمون. وهو ـ سبحانه ـ خلق الإنسان، وخلق نفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر لحكمة بالغة، ورحمة سابغة. فإذا قيل: فلم لم يخلقها على غير هذا الوجه؟ قيل: كان يكون ذلك خلقاً غير الإنسان، وكانت الحكمة التى خلقها بخلق الإنسان لا تحصل، وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا: ونفس الإنسان خلقت كما قال اللّه تعالى: فقد خلقت خلقة تستلزم وجود ما وجد منها لحكمة عظيمة، ورحمة عميمة، فكان ذلك خيراً ورحمة، وإن كان فيه شر إضافي ـ كما تقدم ـ فهذا من جهة الغاية، مع أنه لا يضاف الشر إلى الله. وأما الوجه الثاني من جهة السبب: فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التى تصلح النفس، فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة اللّه ومحبته. وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك، وهذا كله من فضل الله وإحسانه، لكن النفس المذنبة لما لم يحصل لها من يكملها، بل حصل لها من زين لها السيئات ـ من شياطين الإنس والجن ـ مالت إلى ذلك، وفعلت السيئات، فكان فعلها للسيئات مركباً من عدم ما ينفع وهو الأفضل، ووجود هؤلاء الذين حيروها، والعدم لا يضاف إلى اللّه. وهؤلاء القول فيهم كالقول فيها؛ خلقهم لحكمة. فلما كان عدم ما تعمل به وتصلح هو أحد السببين، وكان الشر المحض الذي لا خير فيه هو العدم المحض، والعدم لا يضاف إلى الله؛ فإنه ليس شيئاً، واللّه خالق كل شيء ـ كانت السيئات منها بأعتبار [أن] ذاتها فى نفسها مستلزمة للحركة الإرادية التى تحصل منهاـ مع عدم ما يصلحها ـ تلك السيئات. والعبد إذا اعترف وأقر بأن اللّه خالق أفعاله كلها، فهو على وجهين: إن اعترف به إقراراً بخلق الله كل شيء، بقدرته ونفوذ مشيئته، وإقراراً بكلماته التامات التى لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر، واعترافا بفقره وحاجته إلى اللّه، وأنه إن لم يهده فهو ضال، وإن لم يتب عليه فهو مصر، وإن لم يغفر له فهو هالك ـ خضع لعزته وحكمته ـ فهذا حال المؤمنين الذين يرحمهم اللّه، ويهديهم ويوفقهم لطاعته. وإن قال ذلك احتجاجاً على الرب، ودفعاً للأمر والنهي عنه، وإقامة لعذر نفسه - فهذا ذنب أعظم من الأول. وهذا من أتباع الشيطان، ولا يزيده ذلك إلا شراً، وقد ذكرنا أن الرب ـ سبحانه ـ محمود لنفسه ولإحسانه إلى خلقه؛ ولذلك هو يستحق المحبة لنفسه ولإحسانه إلى عباده، ويستحق أن يرضى العبد بقضائه؛ لأن حكمه عدل لا يفعل إلا خيراً وعدلا، ولأنه لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له (إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). فالمؤمن يرضى بقضائه لما يستحقه الرب لنفسه ـ من الحمد والثناء ـ ولأنه محسن إلى المؤمن. وما تسأله طائفة من الناس، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقضي اللّه للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له). وقد قضى عليه بالسيئات الموجبة للعقاب، فكيف يكون ذلك خيراً؟ وعنه جوابان: أحدهما: أن أعمال العباد لم تدخل فى الحديث، وإنما دخل فيه ما يصيب الإنسان من النعم والمصائب، كما فى قوله: الوجه الثانى: أنه إذا قدر أن الأعمال دخلت فى هذا، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن). فإذا قضى له بأن يحسن، فهذا مما يسره، فيشكر اللّه عليه. وإذا قضى عليه بسيئة، فهي إنما تكون سيئة يستحق العقوبة عليها إذا لم يتب منها، فإن تاب أبدلت بحسنة، فيشكر اللّه عليها، وإن لم يتب ابتلى بمصائب تكفرها فصبر عليها، فيكون ذلك خيراً له. والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقضي الله للمؤمن)، والمؤمن هو الذي لا يصر على ذنب، بل يتوب منه، فيكون حسنة، كما قد جاء في عدة آيات: أن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة بعمله، لا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة. والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه، ودعاء اللّه واستغفاره إياه، وشهوده بفقره وحاجته إليه، وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو. فيحصل للمؤمن ـ بسبب الذنب ـ من الحسنات ما لم يكن يحصل بدون ذلك، فيكون هذا القضاء خيراً له. فهو فى ذنوبه بين أمرين: إما أن يتوب فيتوب اللّه عليه، فيكون من التوابين الذين يحبهم الله. وإما أن يكفر عنه بمصائب؛ تصيبه ضراء فيصبر عليها، فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب، وبالصبر عليها ترتفع درجاته. وقد جاء فى بعض الأحاديث: يقول الله تعالى:(أهْلُ ذِكْرِى أهل مجالستى، وأهل شكرى أهل زيادتى، وأهل طاعتى أهل كرامتى، وأهل معصيتى لا أؤيسهم من رحمتى، إن تابوا فأنا حبيبهم ـ أي محبهم؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأكَفِّرَ عنهم المعائب). وفى قوله تعالى: ولهذا كان أنفع الدعاء، وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة: لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب. ليس كما يقوله طائفة من المفسرين: إنه قد هداه، فلماذا يسأل الهدى؟ وأن المراد بسؤال الهدى: الثبات، أو مزيد الهداية. بل العبد محتاج إلى أن يعلمه ربه ما يفعله من تفاصيل أحواله. وإلى ما يتولد من تفاصيل الأمور فى كل يوم، وإلى أن يلهم أن يعمل ذلك. فإنه لا يكفى مجرد علمه إن لم يجعله الله مريداً للعمل بعلمه، وإلا كان العلم حجة عليه، ولم يكن مهتدياً، والعبد محتاج إلى أن يجعله اللّه قادراً على العمل بتلك الإرادة الصالحة. فإنه لا يكون مهتدياً إلى الصراط المستقيم ـ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ إلا بهذه العلوم والإرادات، والقدرة على ذلك. ويدخل فى ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه. ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة؛ لفرط حاجتهم إليه، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء. وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن، والمأمورين بهذا الدعاء، ورأى ما فى النفوس من الجهل والظلم الذي يقتضي شقاءها فى الدنيا والآخرة، فيعلم أن الله ـ بفضله ورحمته ـ جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير، المانعة من الشر. ومما يبين ذلك أن اللّه ـ تعالى ـ لم يقص علينا فى القرآن قصة أحد إلا لنعتبر بها، لما فى الاعتبار بها من حاجتنا إليه ومصلحتنا. وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثانى بالأول، وكانا مشتركين في المقتضى للحكم. فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان فى نفوس المكذبين للرسل ـ فرعون ومن قبله ـ لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى: ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: (لتسلكن سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه). قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟). وقال: (لتأخذن أمتى مأخذ الأمم قبلها، شِبْراً بشبر، وذراعاً بذراع). قيل: يا رسول اللّه، فارس والروم؟ قال: (فمن؟) وكلا الحديثين فى الصحيحين. ولما كان فى غزوة حُنَيْن كان للمشركين شجرة، يقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، وينوطونها بها، ويستظلون بها متبركين فقال بعض الناس: يا رسول اللّه، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: (الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إنها السَّنَنَ، لتركبن سَنَن من كان قبلكم). وقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وإن كانت بقدر اللّه. فأعظم السيئات جحود الخالق، والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة ونِدا له، أو أن تكون إلها من دونه، وكلا هذين وقع؛ فإن فرعون طلب أن يكون إلها معبوداً دون الله تعالى، وقال: وإبليس يطلب أن يعبد ويطاع من دون اللّه، فيريد أن يعبد ويطاع هو، ولا يعبد اللّه ولا يطاع. وهذا الذى فى فرعون وإبليس هو غاية الظلم والجهل. وفى نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا وهذا، إن لم يعن اللّه العبد ويهديه، وإلا وقع فى بعض ما وقع فيه إبليس وفرعون بحسب الإمكان. قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وفيها ما فى نفس فرعون، غير أن فرعون قَدَر فأظهر، وغيره عجز فأضمر. وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس، وسمع أخبارهم، رأى الواحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلو بحسب قدرته. فالنفس مشحونة بحب العلو والرياسة، بحسب إمكانها، فتجد أحدهم يوالى من يوافقه على هواه، ويعادى من يخالفه فى هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى: والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية، وجحود الصانع. وهؤلاء - وإن كانوا يقرون بالصانع ـ لكنهم إذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادته وطاعته المتضمنة ترك طاعتهم، فقد يعادونه، كما عادى فرعون موسى. وكثير من الناس ممن عنده بعض عقل وإيمان، لا يطلب هذا الحد، بل يطلب لنفسه ما هو عنده، فإن كان مطاعاً مسلماً طلب أن يطاع فى أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية الله، ويكون من أطاعه في هواه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع اللّه وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون، وسائر المكذبين للرسل. وإن كان عالماً أو شيخاً، أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، حتى لو كانا يقرآن كتابا واحداً كالقرآن، أو يعبدان عبادة واحدة متماثلان فيها، كالصلوات الخمس؛ فإنه يحب من يعظمه بقبول قوله والاقتداء به أكثر من غيره، وربما أبغض نظيره وأتباعه حسداً وبغياً، كما فعلت اليهود لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعـو إلى مثل ما دعا إليه موسى، قال تعالى: ولهذا أخبر اللّه ـ تعالى ـ عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم به منهم، فقال تعالى عن فرعون: واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ إنما خلق الخلق لعبادته، ليذكروه ويشكروه ويعبدوه، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبدوا اللّه وحده، وليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة اللّه هي العليا، كما أرسل كل رسول بمثل ذلك، قال تعالى: وقد أمر اللّه الرسل كلهم بهذا، وألا يتفرقوا فيه، فقال: قال قتادة: أي دينكم دين واحد، وربكم رب واحد، والشريعة مختلفة. وكذلك قال الضحاك عن ابن عباس: وهكذا قال جمهور المفسرين . والأمة: الملة والطريقة، كما قال تعالى: والأمة ـ أيضاً ـ: معلم الخير، الذي يأتم به الناس، كما أن الإمام: هو الذي يأتم به الناس. وإبراهيم ـ عليه السلام ـ جعله الله إماماً، وأخبر أنه وأمر اللّه الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحداً، لا يتفرقون فيه، كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معشر الأنبياء ديننا واحد)، وقد قال اللّه تعالى: فمن كان من المطاعين ـ من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك ـ متبعاً للرسل:أمر بما أمروا به،ودعا إلى ما دعوا إليه،وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه،فإن اللّه يحب ذلك، فيحب ما يحبه اللّه تعالى،وهذا قصده فى نفس الأمر أن تكون العبادة للّه ـ تعالى ـ وحده، وأن يكون الدين كله للّه. وأما من كان يكره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك، فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، فله نصيب من حال فرعون وأشباهه. فمن طلب أن يطاع دون اللّه،فهذا حال فرعون،ومن طلب أن يطاع مع اللّه،فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون اللّه أنداداً يحبونهم كحب الله. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر ألا يعبد إلا إياه،وألا يكون الدين إلا له، وأن تكون الموالاة فيه، والمعاداة فيه، وألا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان إلا به. فالمؤمن المتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل، ليكون الدين كله لله، لا له، وإذا أمر أحد غيره بمثل ذلك أحبه وأعانه، وسر بوجود مطلوبه. وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد مَنَّ عليه بأن جعله محسناً، ولم يجعله مسيئاً، فيرى أن عمله لله، وأنه باللّه. وهذا مذكور فى فاتحة الكتاب، التى ذكرنا أن جميع الخلق محتاجون إليها أعظم من حاجتهم إلى أي شيء. ولهذا فرضت عليهم قراءتها فى كل صلاة دون غيرها من السور ولم ينزل فى التوراة، ولا في الإنجيل، ولا فى الزبور، ولا في القرآن مثلها، فإن فيها: فالمؤمن يرى أن عمله لله؛ لأنه إياه يعبد، وأنه بالله؛لأنه إياه يستعين، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكوراً؛ لأنه إنما عمل له ما عمل لله، كما قال الأبرار: ومن الناس من يحسن إلى غيره ليَمُنّ عليه، أو يرد الإحسان له بطاعته إليه وتعظيمه، أو نفع آخر، وقد يمن عليه، فيقول: أنا فعلت بك كذا، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، ولا عمل لله، ولا عمل بالله، فهو المرائى. وقد أبطل الله صدقة المنَّان، وصدقة المرائي، قال تعالى: قال قتادة: قلت: إذا كان المعطى محتسباً للأجر عند الله، مصدقاً بوعد اللّه له، طالباً من اللّه، لا من الذي أعطاه، فلا يمن عليه. كما لو قال رجل لآخر: أعط مماليكك هذا الطعام، وأنا أعطيك ثمنه، لم يمن على المماليك، لاسيما إذا كان يعلم أن الله قد أنعم عليه بالإعطاء.
|